المقالات

حظوظ النفس وعلاقتها بالدعوة إلى الله تعالى

محاضرة أُلقيت في المكتب التعاوني بتبوك ضمن برنامج تأهيل الداعيات

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ،،،
معنى حظوظ النفس :
فهذا اللقاء بعنوان “حظوظ النفس وتأثيرها على الدعوة إلى الله تعالى”، نتناول في عنصره الأول تعريف حظوظ النفس، حظوظ النفس يعني نصيبها من الدنيا، وما نصيب النفس من الدنيا؟ نصيبها المال، والجاه، والشرف والتصدر، والعلو على الخلق، فصار المقصود بحظوظ النفس يعني نصيبها من الدنيا، والناس يتفاوتون في طلب هذه الحظوظ، فمنهم من يطلب المال، ومنهم من يطلب الجاه، ومنهم من يطلب الشرف، ومنهم من يطلب التصدر والتقدم، ومنهم من يطلب الذكر والمحمدة، ومنهم من يطلب العلو على الخلق.
وحظوظ النفس يتنازعها أو تتنازعها النفس الأمارة بالسوء والهوى والشيطان والشهوة الخفية، فكل هؤلاء يحبذون للنفس حظوظها ويدعون الإنسان إلى أن يقدم حظوظ نفسه على مراد الله –عَزَّ وَجَلَّ- وعلى قصد وجهه -سُبْحَانَهُ- والدار الآخرة، ويتفنن هؤلاء الأعداء من الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء في عرض حظوظ النفس على الإنسان، وتزيينها له، حتى ينسى حظه في الآخرة.
وهؤلاء الأعداء من الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء يدعون الإنسان إلى ما فيه هلاكه وخسارته، وعطبه في الدنيا وفي الآخرة، ولهذا يجتهد هؤلاء في تزيين حظوظ النفس للإنسان، وفي الدخول عليه من كل باب وسبيل .
صور حظوظ النفس :
إرادة الدنيا تأخذ صورًا ، أعرض بعضا منها :
الصورة الأولى: أن يطلب الإنسانُ المال بعمل الآخرة، ويكون قصده من العبادة أو القربة، وكذا أيضًا الدعوة إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- إنما هو المال، وهذا ما نفاه أنبياء الله ورسله عن أنفسهم في قولهم لأقوامهم (قل ما أسألكم عليه أجرًا)، (قل ما أسألكم عليه مالًا)، فإذا أراد الإنسان بعمله الصالح المال، فقد قدم حظ الدنيا على حظ الآخرة.
من صور حظوظ النفس: طلب المحمدة، والثناء والفرح بذلك، والبحث عنه والتطلع إليه، وسرور نفسه وانبساط روحه بذلك، وكأنه يرى أن جزاء عمله الصالح هو ما يقدمه الخلق له من الثناء والمدح، وهذا الأمر يدخل على كثيرٍ من الخلق والمشتغلين بعبادة الله -تعالى- وطاعته.
النفس بطبيعتها تحب الثناء والمحمدة، وقد جاء في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِل عن الرجل يجاهد لأجل الذكر، يعني المحمدة، فقيل أي ذلك في سبيل الله، قال: «من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».أخرجاه في الصحيحين .
المقصود أن النفس البشرية جبلت وطُبعت على حب المحمدة والثناء ولهذا أكثر الخلق يبذلون أموالهم وجاههم، ويبذلون كثيرًا من الجهد والعمل من أجل الوصول إلى ثناء الناس ومحمدتهم، فالشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى يدخلون على العبد ويزينون له حب الناس ومدحهم وثناءهم، وهذه المعصية أو هذه الخطوة من خطوات الشيطان كسائر الذنوب والمعاصي، يسترسل معها العبد استرسالًا بالغا، حتى تتملكه فيصبح همه ومقصده وغاية رغبته أن ينال محمدة الناس وثناءهم، فيبذل كل شيءٍ لأجل ذلك، ويبحث عنه، ويتطلع إليه ويُسر به، وهذا نال جزاءه على عمله، وليس له في الآخرة من نصيب.
والعبد المؤمن لا يتطلع إلى ثناء الناس ومحمدتهم، ولا يرغب في ثناءهم، وقد قيل إن علامة الإخلاص أن يستوي عند العبد ثناء الناس وذمهم، فإذا كان كذلك فقد حقق الإخلاص على الحقيقة، ولهذا ينبغي أن يكون هذا الحظ حاضرًا في أذهاننا، فإذا رأى الإنسان في نفسه رغبةً في الثناء وميلًا للمحمدة، وتطلعًا إلى ثناء الخلق عليه، فليعلم أن مقصده مدخول، وأن نيته ليست بخالصة، فيراجع نفسه .
وننتقل إلى الصورة الثالثة: وهي لها علاقة بالصورة الثانية، وهو أنه يكره أن يترك الناس مدحه والثناء عليه، فإذا لم يثن الناس عليه لعملٍ عمله، فإنه يغضب لذلك، وينقم على الناس من ذلك، ويرى أنهم لم يكافئوه على صنيعه، ولم يجازوه على عمله، ومن كان هذا شأنه فإنما يبحث من وراء العمل الصالح على ثناء الناس ومحمدتهم، وهذا لا يقع من المؤمن في الحقيقة، لأن المؤمن في الحقيقة يعمل العمل لأجل الله –عَزَّ وَجَلَّ- سواءً مدحه الناس أم ذموه.
وهنا أمرٌ ينبغي التفطن له، وهو أن بعض الناس يعملون العمل الصالح لأجل الله –عَزَّ وَجَلَّ- وإرادة الدار الآخرة، ولم يلتفت إلى ثناء الناس ومدحهم، لكن الله –عَزَّ وَجَلَّ- يجري ألسنة الناس بالثناء عليه فيكتب له الذكر الحسن، وهذا لا يدخل في الرياء؛ لأن المؤمن هنا عمل العمل أصلًا لأجل الله –عَزَّ وَجَلَّ- ولم يلتفت إلى ثناء الناس ولم يتطلع إليه جاء في صحيح مسلم:(أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده أو يحبه الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم:(تلك عاجل بشرى المؤمن).
وها هنا نقطةٌ مهمة، وهي أن المؤمن الصادق ينفر من المدح، ويستاء منه، ولا يرضى به ولا يرغب فيه.
ووجه ذلك أن المؤمن عمل العمل لأجل الله –عَزَّ وَجَلَّ- فهو لا يريد من الناس جزاءً ولا شكورًا، وإنما هو يطلب الأجر والثواب من الله –عَزَّ وَجَلَّ- فإذا مدحه الناس أو أثنوا عليه فإنه لا يرضى بذلك ولا يُسر به ولا يفرح به، ولا ينبسط إليه ولا يسترسل معه، وأصل ذلك ما ذكرته قبل قليل أن العمل إنما هو لله –عَزَّ وَجَلَّ- فهو يطلب الجزاء من الله –عَزَّ وَجَلَّ- ولا يطلبه من الخلق.
وأمر ينبغي التنبه له، خاصة في الأعمال الجماعية أو الأعمال المؤسسية الدعوية، أنه يجري فيها أحيانًا تكريم العاملين في هذا البرنامج أو ذلك المشروع، فهنا ينبغي للمؤمن ألا يبحث عن التكريم وإذا لم يكرّم يغضب لذلك، وينقم على من لم يُكرموه أو يُقدموه أو يُصدروه.
الأمر الرابع من صور حظوظ النفس: حب الرئاسة والتقدم، وهذا واضحٌ عند كثير من الناس وقد قيل إن آخر الأشياء نزولًا من قلوب الصالحين حب الرئاسة، فإن التعلق بالرئاسة أمرٌ جبل عليه الناس، لكن المؤمن ينئى بنفسه عن ذلك، ويبتعد عنه.
والسبب في هذا أن السلامة لا يعدلها شيء، ولأن الرياسة في الغالب يعتريها ما يعتريها من حصول الظلم أو القصور، أو التقصير، أو الخطأ، أو الجهل، إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض لمن يتولى عملًا أو رياسةً  ولهذا كان السلف –رحمهم الله- ينأون بأنفسهم عن الولايات والرئاسات والمناصب، ويتمنى الواحد منهم ألا يلي رئاسة، بل كانوا –رحمهم الله- يفرون من ذلك، وأحيانًا يخرج من بلده فرارًا من الرياسة، وبعضهم يؤثر السجن أو القيد أو الضرب على أن يلي عملًا ، والسبب في هذا كله أنهم يؤثرون سلامة دينهم، وسلامة الدين إنما تكون في البعد عن الرئاسات، والمسئوليات، والمناصب، وفي الغالب أن الإنسان إذا وليَ شيئًا من ذلك، فإنه لا يسلم له دينه.
فيحرص الإنسان على ألا يلي ولايةً فضلًا عن أن ينافس أو يتسابق إليها أو يقدم نفسه لتولي رياسةً من الرئاسات ومسئولية من المسئوليات، المؤمن في عافية وسلامة، فلا يطلب الهلاك والعطب .
وإذا وليَّ شيئا من ذلك من غير رغبة ولا تطلّع أُعين على هذه الرئاسة أو الولاية، أما إذا استشرفها وطلبها ، فإنه يوكل إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه فإنما يوكل إلى ضعفٍ وعجزٍ وفقرٍ وعورةٍ وقصور.
فعلى المؤمن أن يحرص ألا يغذي هذا الجانب عنده، جانب حب الرئاسة، هذا موجود عند كل الناس، وإنما هي بذرةٌ في القلب، فمن تركها وأهملها غارت وماتت، يهملها بتقوى الله –عَزَّ وَجَلَّ- وإرادة الله –عَزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة، أما إذا تعاهدها بالسقي والرعاية، فإنها تكبر حتى تكون عظيمةً في جذرها وفي أصلها وفي ساقها ثم بعد ذلك يتولد عنده البحث عن المناصب والبحث عن الرئاسات والتطلع إلى ذلك والحرص عليه، وهذا من طلب حظوظ النفس.
وهذا إذا كان في الأعمال الدعوية فإنه أشد قبحًا، لأن الداعي إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- ينبغي أن يكون على حالٍ من طلب السلامة في الدنيا والآخرة، وطلب الرئاسات والمسئوليات والمناصب منافٍ لذلك.
من صور حظوظ النفس: كراهة نجاح الآخرين، وضيق الصدر بذلك، فإذا رأى أحدًا حصل له نجاح نوع من النجاح، أو التقدم أو التصدر فإنه ينقم عليه ويسخط على ذلك، وهذا في الحقيقة نوع من البغي والعدوان، وهو دليلٌ على عدم الرضا بقضاء الله –عَزَّ وَجَلَّ- وقدره.
فإن الله -سُبْحَانَهُ- هو الذي قسم الأرزاق بين الخلق وفق حكمته ورحمته وعدله فلا يحق لأحدٍ أن يتسخط على قضاء الله وقدره، ولم أُعطي هذا ومُنع ذاك؟ أو بُسط على ذاك، وضُيق على هذا؟ جاء في مسلم: (قد أفلح من رُزِق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه).
من صور حظوظ النفس: أن الإنسان يكره تفوق الآخرين أو نجاحهم، المؤمن لسلامة صدره وصفاء سريرته ونقاء قلبه، فإنه يفرح بالخير الذي يجريه الله –عَزَّ وَجَلَّ- على يد إخوانه المسلمين.
فيدعو لهم بالصلاح والسداد ويتمنى لهم الخير، ويشجعهم ويسددهم، ويسدد ما قد يجده من القصور أو الضعف أو الخلل، كل ذلك بإشفاق ورحمة ومحبة، هذا هو الأصل في المسلم.
بعض الناس يبارك الله –عَزَّ وَجَلَّ- في جهده أو في عمله، فيكتب له نجاحًا في برنامج أو مشروع أو إدارة عمل أو الإمساك بدفة مؤسسة، فالمؤمن الموفق يثني عليه بما يراه منه ويدعو له، ويتمنى له الزيادة، ويهنئه على ذلك ويشجعه، هذا شأن المؤمن، أما من اُبتلي بالتعلق بحظوظ النفس، فإنه على النقيض من هذا، يكره تفوق الآخرين، وربما بغى عليهم وعاداهم–نعوذ بالله من ذلك-.
من صور حظوظ النفس: الحط على الآخرين، والتقليل من أعمالهم، وازدراء جهودهم، وأحيانًا يدفعه ذلك إلى أن يجني عليهم أو يكذب عليهم، وسبب ذلك أن حظوظ النفس قد طغت عليه فأدت به إلى البغي والعدوان على إخوانه المسلمين.
من صور حظوظ النفس: كثرة الحديث عن الأعمال ،  والأعمال إن كانت خالصة لله –عَزَّ وَجَلَّ- فلا ينبغي المسلم أن يذكرها، بل عليه أن يذكر سيئاته وتقصيره في حق الله –عَزَّ وَجَلَّ- ولا يخشى على حسناته فإن الله –عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾[الكهف:30].
فلا نخشى على حسناتنا وإنما نخشي من آثار سيئاتنا، فيقبح بالمؤمن أن يذكر حسناته عند الناس، فيعدد جهوده وأعماله، ومآثره مما عرفه الناس ومما لم يعرفوه، وكأنه يقول للناس انظروا إليَّ وانظروا إلى أعمالي وكأنه ينتظر منهم المجازة والشكر والثناء، وكل ذلك من حظوظ النفس وهذا وباء ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه وينظر إليه، فإذا رأى في نفسه ولو شيئًا قليلًا منه فعليه أن ينزع ويكف، لأنه لا ينبغي للمسلم أن يتحدث عن نفسه ويثني عليها ويثني على أعماله، ويعدد إنجازاته، والشيطان أحيانا يدخل عليه ويقول: هذا من باب ذكر الخير أو من باب تشجيع الناس.
لا ، الناس يتشجعون بقراءة القرآن والسنة، وبمعرفة ثواب العمل الصالح، ولن يشجع الناس ذكر أعمالك وحسناتك وجهودك، فهذا الأمر ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه فيه، فإذا رأى من نفسه شيئًا من ذلك، ولو كان شيئًا قليلًا عليه أن يكف عن ذلك وينزع، فإنه آفةٌ تُذِهب أجر العمل الصالح.
والأصل أن المؤمن يُخفي أعماله ولا يظهرها ، وقد قيل : إن المؤمن يُخفي حسناته كما يُخفي سيئاته .
من صور حظوظ النفس: نسبة أعمال الآخرين إلى النفس، فإذا اشترك مع أناس آخرين في عمل، فإنه يستولي على عملهم ، وينسبه إليه على وجه الاستقلال، ويتجاهل جهود الآخرين وهذا في الحقيقة دليل على سيطرة حظوظ النفس على هذا الإنسان، ودليلٌ أيضًا على ضعف مروءته، فإن الإنسان لا يرضى أن يسطو على أعمال الآخرين، ويسرق جهودهم وينسبها إلى نفسه، والله –عَزَّ وَجَلَّ- ذم هؤلاء بقوله: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[آل عمران:188].
ومثله من يُنسب إليه عمل الآخرين ويفرح بذلك ولا يقول إن هذا العمل ليس عملي وأنا لم أقم به لوحدي أو لم أقم به أساسًا، فهو إما أن يسرق جهود الآخرين ويسطو على أعمالهم، وينسبها إلى نفسه، أو أنه يرضى بأن تنسب أعمال الآخرين إليه، والمؤمن الذي يريد الله –عَزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة، والذي كملت مروءته يعطي الناس حقوقهم.
من صور حظوظ النفس: الإعجاب بالعمل، نحن أعمالنا قليلة، ومع ذلك يعتريها كثير من العوارض التي تحبطها أو تنقص أجرها، ومع قلة هذه الأعمال وضعفها وعلى ما يقع فيها من قصور وخلل فإننا نعجب بها وكأننا نمن على الله –عَزَّ وَجَلَّ- بها، فيتعاظم العمل عند صاحبه، وهذا منافٍ للإيمان.
المقصود أن الإنسان إذا وفق لعملٍ صالح فعليه أن يخاف ألا يُتقبل منه كما قال –عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة:27]؛ وأن يصيبه ما يصيب الصالحين من عباد الله، من الخوف والوجل، كما قال –عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾[المؤمنون:60]؛ جاء في الصحيح أن عائشة –رضي الله عنها- قالت يا رسول الله عن هذه الآية هم الذين يسرقون ويزنون ويخافون الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يُتقبل منهم.
فشأن المؤمن أنه إذا عمل العمل الصالح لا يرى لعمله هذا وزنًا أو قيمةً فيتعاظم العمل عنده، وإنما يزداد افتقارًا إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- فهو يخاف ألا يتقبل هذا العمل منه فضلًا عن أن يُعجب به، ولهذا من الآفات العظيمة التي تدخل على المؤمن الإعجاب أو العجب بالعمل الصالح، وقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني: (ثلاث مهلكات، وذكر منها إعجاب المرء بنفسه). وجاء في الحديث الذي خرجه الترمذي: «إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك» .
المقصود أن العمل الصالح يزيد المؤمن خوفًا وفرقًا وخشيةً من الله –عَزَّ وَجَلَّ- ويزيد المنافق طمأنينة وإعجابًا وعجبًا وضلالًا فيكون العمل في العمل الصالح في حق الأول رفعةً وفضلًا وثوابًا وأجرًا، ويكون في حق الثاني نكوصًا وضلالًا وإبعادًا –نعوذ بالله من ذلك-.
من صور حظوظ النفس: حب الظهور، وهذا الأمر يتوكد أو يجب التوكيد عليه في هذا الزمن الذي كثرت فيه وسائل الاتصال والتواصل والبروز، وأصبح الناس يبحثون عن الشهرة، والشهرة من صور العلو في الأرض، والله –عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[القصص:83].
وطالب الشهرة يعاقب بنقيض قصده في الآخرة، وقد جاء عند أبي داوود أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «من لبث ثوب شهرةٍ في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة في الآخرة»؛ ولهذا المؤمن لا يبحث عن الشهرة ولا يطلب الظهور، ووسائل الاتصال والتواصل هي امتحان واختبار للناس، ليتبين الصادق من الكاذب، فإن المؤمن يبتعد عن الظهور، والبروز إلا فيما دعت الحاجة إليه، أما ما عدا ذلك فلا يطلبه ولا يرغب فيه.
ولهذا تصوير الأعمال الصالحة المحضة، ونشرها بين الناس مثلا من حب الظهور، وهو منافٍ للإخلاص، وهذا يقع في الخلق، يعملون الأعمال الصالحة، ثم يصورون أنفسهم وينشرونها بين الناس، فهذا من صور طلب الشهرة، وطلب الظهور، والإنسان إنما يعمل العمل الصالح لأجل الله –عَزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة.
من صور حظوظ النفس: ما يسمى تضخم الأنا، فكثيرًا ما يتكلم عن نفسه أنا فعلت أنا قلت، أنا سافرت، أنا ذهبت في ذكر أعماله وجهوده، وهذا شأن إبليس لما قال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾[ص:76].
وهذا شأن فرعون لما قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24] .
ما تأثير حظوظ النفس على الدعوة؟
إذا قامت حظوظ النفس وتغلبت على الإنسان فإن الدعوة حينئذٍ تكون لا ثمرة فيها، ولا فائدة منها، ولا أثر من ورائها، وإنما شأن الداعي حينئذٍ كمن يكتب في الماء أو يخط في الهواء لا أثر لعمله ولا تأثير لقوله، وإنما يجهد ويتعب شأن الذين يعبدون الله –عَزَّ وَجَلَّ- عل ضلال، وكما قال الله –عَزَّ وَجَلَّ- عن طائفة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾[الغاشية: 2-3]؛ يعني عملت ونصبت في الدنيا، لكن عملها وجهدها على ضلال وانحراف فلم تكسب إلا التعب والنصب.
وقد جاء عند ابن ماجه: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب).
وذكر الله –عَزَّ وَجَلَّ- طائفة من عباده يعملون لكن عباداتهم لم تنفعهم، قال –عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾[الكهف:103- 105].
فشأنهم كمن يتعلق بسراب الماء فيجري خلفه ويلهث بحثًا عنه حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده، فوفاه حسابه والله سريع الحساب.
ولهذا إذا غلبت حظوظ النفس على دعوتنا أو دعاتنا أو داعياتنا، فإن الدعوة حينئذٍ لا يكون لها أثر وتأثير، بل تكون هذه الدعوة التي غلبت عليها حظوظ النفس ضد الإسلام والدعوة في استخدام أعداء الإسلام لها في تشويه الدعوة والتنفير منها .
كيف يتخلص الإنسان من حظوظ النفس؟
يكون التخلص من حظوظ النفس بتحقيق الإخلاص، وتحقيق الإخلاص أن يعلم الإنسان أن أمر الأولى والآخرة بيد الله –عَزَّ وَجَلَّ- فالخلق لا يستطيعون أن يمنحوه الدنيا، ولا يستطيعون أن يخلصوه في الآخرة، وثناء الناس ومدحهم لن يرفعه في الدنيا ولن ينجيه في الآخرة، ولهذا التعلق بالدنيا، إنما هو تعلقٌ بمتاعٍ زائل، والله –عَزَّ وَجَلَّ- لما ذكر الدنيا، ذكرها بصيغة التنكير: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾[غافر:39].تحقيرا وتقليلا لها .
وهكذا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ذكر الدنيا في الحديث المخرج في الصحيحين قال: «ومن كانت هجرته إلى دنيا»؛ فنكّرها ليفيد تقليلها وتحقيرها، وسميّت الدنيا بذلك لدنوّ زوالها .
ولهذا المؤمن ينظر إلى هذه الدنيا على أنها مجرد متاع، لا تستحق أن يبذل الإنسان لأجلها أو يبذل لأجل الخلق الذين فيها، الخلق لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
وليست الأرزاق ولا الآجال بأيديهم، وإنما الأرزاق والآجال بيد الله –عَزَّ وَجَلَّ-. وأيضًا ربما يعمل الإنسان ويجهد لأجل الثناء والمحمدة، والمكانة والجاه وطلب التصدر عند الخلق ولا يجد ذلك، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإذا أقبلتَ على الناس صرف الله –عَزَّ وَجَلَّ- قلوب الناس عنك.
وإذا أقبلت على الله –عَزَّ وَجَلَّ- صرف الله –عَزَّ وَجَلَّ- قلوب الخلق إليك، وإذا رغبت في ثناء الناس ومحمدتهم، ورغبت فيما عندهم، فإن الله –عَزَّ وَجَلَّ- يعاملك بنقيض قصدك، فينقلب الناس عليك بالذم والتنقيص، والشتم، والتقبيح.
لهذا المؤمن يوطّن نفسه على ألا يطلب المكانة عند الخلق ولا يطلب ثناء الناس ولا يطلب محمدة الناس وإنما يرغب فيما عند الله –عَزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة، وإذا وفق إلى ذلك، فإن أمر الدنيا والآخرة بيد الله –عَزَّ وَجَلَّ- وقد جاء في الحديث وفيه لفتةٌ عظيمة: «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومن أصبح وهمه الآخرة، جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمه». خرّجه الترمذي .
فلا ينبغي للمؤمن أن يطلب الدنيا ممن لا يملكونها، وأن يُعرض عن طلب الدنيا ممن يملكها، فإن الخلق لا يملكون الدنيا فضلًا عن أن يملكوا الآخرة، وإن الله –عَزَّ وَجَلَّ- يملك أمر الدنيا والآخرة، فالأمور منه والأمور إليه والأمور بيده -سُبْحَانَهُ-،
وأيضًا يتذكر الإنسان مصائر الخلق، وأن الخلق يصيرون إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- فالذي تطلبه وترغب في ثنائه سيصير إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- كما ستصير أنت إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- فالطالب والمطلوب سائرون إلى الله –عَزَّ وَجَلَّ- وأمورهم بيد الله –عَزَّ وَجَلَّ-.
وعلى المؤمن أن يقرأ ما كتبه العلماء فيما يتعلق بتزكية النفوس وتطهيرها.
فيقرأ مثلا ما كتبه ابن الجوزي في كتابه “منهاج القاصدين” وكتابه “صيد الخاطر” وكتابه “التبصرة” .
ويقرأ ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى مجلد توحيد الألوهية، مما يقوي الإنسان في قصده وجه الله –عَزَّ وَجَلَّ- والدار الآخرة .
ويقرأ مثلًا كتاب “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين” لابن القيم –رحمه الله تعالى- فإن في هذا الكتاب معاني عظيمة، تقوي الصدق والإخلاص .
ويقرأ أيضا الآيات والأحاديث التي تتكلم عن حقيقة الدنيا ومآلها ، فإذا أكثر الإنسان من قراءة الآيات والأحاديث التي في هذا المعنى، فإنها تقوي إرادته في التغلب على حظوظ النفس.
نسأل الله –عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياكم الإخلاص وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

Print Friendly, PDF & Email

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى