المقالات

فقه الدعوة إلى الله أهداف وقواعد

محاضرة أُلقيت ضمن برنامج تأهيل الداعيات بتبوك

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي هذا اليوم عندنا لقاء بعنوان: “فقه الدعوة إلى الله تعالى”، وهذا العنوان مُركب من كلمات. أما الكلمة الأولى فقه: فالمراد بالفقه في اللغة: دقة الفهم، المشهور أن الفقه في اللغة هو الفهم. لكن قيل أن الفقه في اللغة: دقة الفهم .
ولهذا جاء في الحديث: «فرُب مُبلغ أوعى من سامع، ورُب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه». والفقه هو الذي يتمايز به الناس، وجاء في الحديث: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا – »، وجاء في الصحيح أيضاً: «مَن يُرد الله به خيرا يفقهه في الدين.»
فالفقه مرتبة، أو هي قدر زائد على العلم قال -عز وجل-: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء:79] فبيَّن سبحانه أنهما اشتركا في العلم، لكنه سبحانه خص سليمان بالفهم . ولما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن عباس كما في البخاري، قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل» فالفقه مرتبة غير مرتبة العلم، أو هي أخص من العلم.
وكيف ينال الإنسان الفقه والفهم؟ – جزء منه مكسوب، وجزء منه موهوب أي هبة من الله عز وجل. وهبات الله -عز وجل- يؤتيها الله أولياءه؛ ولهذا كان أكثر الناس علماً وفقهاً هم الأنبياء والرسل، ثم أتباعهم.
وهنا أمران :
الأمر الأول: إذا تأملنا الآيات التي فيها ذكر العلم، لوجدنا أن الله -عز وجل- يقول: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269]،وقال تعالى:{وكلا آتينا حكما وعلما}: وقال سبحانه{وقل رب زدني علما}: وقال سبحانه:{فَفَهَّمْنَاهَا}: وقوله صلى الله عليه وسلم«اللهم فقهه».
ففي هذه الآيات والحديث نُسب التعليم والتفهيم إلى الله تعالى ،فهذه المراتب العظيمة هي مواهب يهبها الله -عز وجل- لمن شاء من خلقه، وكلما كان الإنسان أكثر ولاية لله كان أكثر فقهاً وفهماً وعلماً.
الأمر الثاني: أن العلم والفقه الحقيقي يورث الارتباط بالله -عز وجل- والافتقار إليه سبحانه، والخوف من الوقوع في الضلال أو الانتكاس أو النفاق؛ ولهذا يقول بن أبي مُليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه)، ويقول الحسن البصري: (لا يأمنه -يعني النفاق- إلا منافق، ولا يخافه إلا مؤمن).
ولو تأملنا، أكثر الآيات التي فيها ذم، لوجدناها لطائفة الذين أوتوا العلم فأعرضوا عنه، ولم ينتفعوا به، ولم يزيدهم علمهم فقهاً وفهماً، قال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}[الأعراف/175:176] فشبَّه الله -عز وجل- مَن يؤتيه العلم ثم يُعرض عنه بالكلب.
وفي آية أخرى شبَّه الذين يحملون العلم ولا ينتفعون به بالحمار: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}[الجمعة:5]،
 ولا أعلم في القرآن أن الله -عز وجل- شبَّه طائفة بأنجس الحيوان بعد الخنزير وهو الكلب، ولا بأبلد الحيوانات وهو الحمار  إلا هذه الطائفة، طائفة الذين أوتوا العلم وأعرضوا عنه أو لم ينتفعوا به.
لهذا نحن بحاجة إلى الافتقار بين يدي الله، والانطراح بين يدي الله، وسؤال الله -عز وجل- أن يفتح أفهامنا وقلوبنا للفقه في دينه، والتأمل في آياته. وسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- كان من أكثر افتقاراً، يظهر افتقاره في عبادته؛ كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فيقول: «أفلا أكون عبداً شكورا»، ويظهر افتقاره في سؤاله وإلحاحه على الله -عز وجل- فكان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مُصِّرف القلوب والأبصار صرِّف قلبي على طاعتك»، ولما علَّم أبي بكر الصديق دعاء يدعو به في دُبر الصلاة، قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك إنك أنت الغفور الرحيم»، هذا الدعاء يبين أن أصل العبودية هي الافتقار إلى الله -عز وجل- وأن يعلم العبد ويوقن أنه في أشد الفاقة وأعظم الحاجة إلى الله -عز وجل-.
عندما يعلم العبد شدة حاجته وفاقته إلى الله وأنه لا يغنيه إلا عبادة الله -عز وجل- والتذلل بين يديه، فإن الله -سبحانه- يُفيض عليه بأنواع من لطفه ورحمته وعطائه، وهو سبحانه لا حد لفضله وعطائه وسخائه وكرمه، فكلما كان العبد أعظم افتقاراً واشد إظهاراً للحاجة والفاقة بين يدي الله، كلما كان الله -عز وجل- أكثر عطاءً وبراً وإحساناً بعبده. فيؤتيه الله -عز وجل- هذا الفقه، كما آتاه وأعطاه للصفوة من عباده والمصطفين من أوليائه من الأنبياء والرسل.
معنى فقه الدعوة :
فقه الدعوة: الدعوة في اللغة أصلها: استمالة الشي، وهذا المعنى اللغوي يُطابق المعنى الاصطلاحي تمام المطابقة. فإن الداعية يسعى إلى استمالة القلوب ، وجذب الناس إلى دين الله -عز وجل .
وأعظم سبب في تحصيل الفقه بالدعوة أن تكون الدعوة لله تعالى ، لا يريد منها رياء ولا سمعة ولا ذكرا ولا محمدة .
ولما أورد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد قوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ}: قال: فيه تنبيه على الإخلاص، فإن هناك من يدعو إلى نفسه، يعني وإن لبَّس دعوته بالقرآن والسُنة إلا أنه في الحقيقة إنما يبحث عن التصدر أو التقدم، أو الظهور أو المكانة، أو الرفعة والعلو في الأرض.
ومَن فَهِم هذا العنوان حق الفهم :(فقه الدعوة إلى الله) وأن الدعوة يجب أن تكون لله تعالى وحده، فقد أدرك الدعوة على الحقيقة. وأكثر الناس إدراكاً لهذا المعنى العظيم هم الأنبياء والرسل، فهم أكثر الناس فقهاً، وهم الدعاة إلى الله، وهم الذين لا يرجون إلا الله.
ما المراد بالفقه في الدعوة،؟  المراد بفقه الدعوة: “أن يقوم الداعي بالدعوة إلى الله -تعالى- على أساس من الكتاب والسُنة، وبمعرفة أحوال الناس مع التحلي بالحكمة والحلم والصبر والعلم” .
هذا التعريف يقوم على أركان :
الركن الأول : التمسك بالكتاب والسُنة، يجب أن نعلم أن الذين يؤثرون في الناس، وينجحون في دعوتهم، ويمتد أثرهم في الأرض، إنما هم أكثر الناس تمسكاً بالكتاب والسُنة واعتصاماً بهما. ولهذا أنصح الداعية أن يكون لها قراءة في كتب التفسير، وتُديم النظر في كتب التفسير. فتقرأ من تفسير السعدي، ثم تقرأ من تفسير بن كثير أو مختصر تفسير بن كثير، ثم تقرأ مثلاً من تفسير بن عطية أيضاً، ثم تقرأ من تفسير بن عثيمين -رحمه الله-، وأيضاً تحرص على أن تُقبل على القرآن، قراءة وتدبراً، وأن يكون لها وِرد يومي لا تتركه أبداً؛ لأن اللي يعتصم بالقرآن ويُقبل على القرآن يُفتح عليه فيه.
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- في آخر حياته يقول: (ندمت على أني لم أشتغل بالقرآن.
وإذا أراد الله -عز وجل- بعبد خيراً فتح له باب التعلق بالقرآن، والارتباط به، وانظر إلى وصية الله -عز وجل- وأمره لنبيه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} .
الركن الثاني :المعرفة التامة بأحوال الناس. والمراد بأحوال الناس :
 أولا :عاداتهم وطبائعهم وأديانهم وفرقهم، فمثلاً الذي يدعو النصارى، غير الذي يدعو اليهود، الذي يدعو العجم غير الذي يدعو العرب، الذي يدعو في المجتمع الأمريكي غير الذي يدعو في المجتمع الأوروبي، الذي يدعو في مجتمع جاهل غير الذي يدعو في مجتمع متعلم، اللي يدعو في مجتمع بسيط غير الذي يدعو في مجتمع فيه شبهات، وهكذا.
ثانيا :معرفة أحوال الناس، بأن ينظر إلى ما ذكره الله -عز وجل- من طبائع النفس البشرية، فإن الناس في الغالب يشتركون في هذه الطبائع التي ذكرها القرآن. فمثلاً القرآن يقول: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، ويقول: (إنا خلقناكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة)، ويقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق/ 7:6]، ويقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، ويقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج/ 21:19]. وآيات كثيرة تتكلم عما ركبه الله -عز وجل- في النفس البشرية من الطبائع والعادات، وهذه يشترك الناس فيها في الغالب.
فالذي يعرف النفس البشرية يستطيع أنه يستميلها ويجذبها ويدخل عليها .
الركن الثالث :  التحلي بالحكمة والحلم والصبر والعلم :
لا بد للداعية من العلم والحلم والحكمة والصبر .
والعلم ضرورة للداعية لأن الدعوة بجهل تضر ولا تنفع .
      والحلم ضرورة للداعية لأنه لا بد أن يواجه من يستفزه ويجهل عليه .
والحكمة: وهي وضع الشيء في موضعه ، فالداعية لا يعرف متى يرفق ومتى يعنّف، ومن يواجه ومتى يتجاهل ، ومن يتكلم ومتى يسكت ما لم يكن عنده حكمة .
والصبر: لأن الدعوة مستلزمة لحصول الأذى للداعية كما قال تعالى:( وامر بالمعروف وانهه عن المنكر واصبر على ما أصابك). فالصبر سلاح يتسلح به المؤمن .
وجاء عن غير واحد من السلف :(لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه ، رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه).
مكانة الدعوة إلى الله تعالى :
عندنا بعد ذلك: ما مكانة الدعوة إلى الله؟ 
– الدعوة إلى الله مكانتها عظيمة، ويكفي أن الذي قام بها هم الأنبياء والرسل وهم صفوة الخلق، وسادات الناس. أما حكمها: فإنها فرض عين على القادر خاصة في هذا الزمن اللي غلب فيه الجهل وكثُر فيه دعاة الباطل، فإن الدعوة متحتمة في حق القادر  كل بحسبه.
ما أهداف الدعوة؟ 
– الدعوة تهدف إلى استنقاذ الناس من الشرك للتوحيد، ومن البدع إلى السُنة، ومن الغواية إلى الرشد، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الاعوجاج إلى سلوك الطريق المستقيم. لكن سيأتي معنا إن هذه الأهداف قد تتحقق، وقد لا تتحقق؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «يأتي النبي ومعه الرهط -يعني الجماعة- ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد».
قواعد في فقه الدعوة :
القاعدة الأولى : من القواعد التي ينبغي أن يُرجع إليها في فقه الدعوة أن مهمة الداعية هي البلاغ والبيان؛ لأن الله -عز وجل- يطبع على قلوب مَن سبق في علمه سبحانه أنهم لا يؤمنون، كما قال الله -عز وجل-: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وفي آيات كثيرة في القرآن تُبين أنه لا ينتفع بالعلم بالدعوة وبالقرآن وبالرسول إلا مَن فَتح الله -عز وجل- قلبه {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}[الزمر:22].
وكما قال هود -عليه السلام-: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] {إن الذين حق عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى العذاب الأليم) (ولو أننا نزلنا عليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله).
فالمقصود: إن الله -عز وجل- في آيات كثيرة يُذكِّر نبيه عليه الصلاة والسلام أن الهداية بيد الله -عز وجل-، بل إن الله -عز وجل- عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم على أنه يحزن على ضلال قومه وانحرافهم، فقال له في أول سورة الكهف: (لعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) أي مهلك نفسك، و في آيات كثيرة يقول: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النمل:70]، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127].
المقصود: إن الداعية تقوم بواجب الدعوة إلى الله، أما صلاح الناس واستقامتهم وقبولهم للحق فذلك إلى الله -عز وجل-. وتأملوا يا أخوات هذا المعنى في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، النبي -عليه الصلاة والسلام- رسول من عند الله، وجاء بالوحي، ويتلوه على الناس كما أُنزل، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الناس، وأصدق الناس، وأرغب الناس في هداية الخلق، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل. هذا فيه درس للدعاة والداعيات؛ ليعرفوا أن هداية الخلق إنما هي إلى ا لله -عز وجل-، فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكانته، وشرفه لم يستجب له أكثر الناس، فكيف بمن هو دونه.
المقصود: أن نعرف أن واجبنا هو البلاغ والبيان، ولهذا عندنا آيات كثيرة في القرآن: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15]  كررها الله -عز وجل- في أكثر من، من سورة، لماذا؟ – ليُحمل الإنسان مسؤولية اختياره، وأن هداية الناس أو طلبهم للهداية أو إعراضهم عنها هم الذين يتحملونها. وإنما واجب الداعية هو البلاغ والبيان والنصح وعرض الحق، أما إدخال الإيمان إلى القلوب، فذاك ليس شأنه، ودوننا سيرة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام -، فإنهم أشرف الخلق، وأفضل الناس، وجاءوا بالوحي من عند الله، وهم مؤيدون بالآيات، ومع ذلك كفر بهم أقوامهم ولم يؤمن بهم إلا القليل.
هذا الأمر إذا فهمناه يكون له أثر على النفس، وهو أنها لا تجزع، ولا تحزن، ولا تمل، ولا تأسف، ولا تنقطع، ولا تصيبها السآمة، ولا تضيق، ولا تنقطع، ولا يتسلل إليها اليأس أو القنوط.
ولهذا ينبغي نتأمل قوله سبحانه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [الرعد:40]، – لأنه يترتب على فقه هذا المعنى هذه الأمور العظيمة اللي ذكرناها، وواحدة منها تكفي لإهلاك الداعية؛ لو أساء الظن بالله، أو أساء الظن بدينه، أو أصابه الملل، أو ضاق صدره، أو انقطع عن الدعوة. كل هذه مهالك سببها أنه لم يفهم هذا الأصل العظيم الذي كرره الله في القرآن كثيراً، وظهر في سيرة الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- ظهوراً واضحاً.
القاعدة الثانية: أنه لابد للداعية من الانبساط إلى الناس؛ ولهذا بوّب البخاري -رحمه الله-: باب الانبساط إلى الناس ومعنى الانبساط إلى الناس كما أمر الله -عز وجل- نبيه صلى الله عليه وسلم  (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الحجر:88]، ومعناه التواضع  والتطامن والنزول إليهم؛ وهذا رد على ما يُسمى بالدعوة النخبوية؛ يعني يريد طبقة معينة، وفي مكان معين، هذه ليست بالدعوة في الحقيقة.
تأملوا الذين أسلموا على يد النبي -عليه الصلاة والسلام- في العهد المكي، مَن هم؟ النخبة؟ لا، الملأ؟ لا، وإنما هم ضعفاء الناس وسوقتهم وضعفاؤهم ، ولهذا الداعية الناجحة هي التي تنبسط وتنزل إلى الناس.
الدعوة النخبوية، التي ننتقي فيها المدعوين كأن الواحد يتبضع ويتسوق، فيأخذ ما يريد ويترك ما يريد، هذه ليست بدعوة الأنبياء والرسل. الداعية الحقيقي هو الذي لا يميز بين الناس؛ يعني مثل ما يدعو الوجيه، يدعو العامل الضعيف ، مثلما يدعو الغني يدعو الفقير، مثل ما يذهب لمجالس الأغنياء يذهب  إلى أندية الفقراء، مثل ما يُعلم المتعلم ينزل إلى الجاهل،مثل ما يدعو خارج البيت يدعو داخل البيت.
ولهذا لو تأملنا الدعاة الناجحين ، سنجدهم الدعاة الذين انبسطوا إلى الناس ونزلوا إليهم .
قال ابن عثيمين -رحمه الله- في ترجمته لنفسه (تأثرت بالشيخ عبدالعزيز بن باز من جهة بسط نفسه للناس ، وهذا أحد أسباب تأثيرهما في الأمة .
وهذا المعنى نأخذه من عالمية رسالة النبي -عليه الصلاة والسلام-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم جميعا) الأعراف:158 أكد ذلك بقوله: {جَمِيعًا}، وقال سبحانه{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]. فهذا الأمر، الذي هو الانبساط للناس نُرجعه إلى أصل عظيم من أصول رسالته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه رسول للناس جميعاً، للصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد والعربي والعجمي والجاهل والمتعلم، الناس جميعاً. هذه هي دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
أما الذي يوجه دعوته لقوم دون قوم ، أو يخص بالدعوة طائفة دون أخرى فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
عاتب الله عز وجل النبي -عليه الصلاة والسلام- (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [عبس/ 7:1]، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- مرة التفت إلى وجهاء قريش يدعوهم، فجاءه ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى، فأعرض عنه. لماذا؟ – لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يرغب في إسلام هؤلاء؛ لما سيحصل بإسلامهم من نصرة الدين، فعاتبه الله -عز وجل على ذلك .
القاعدة الثالثة : القدوة، الذي ليس بقدوة لا يتأثر الناس به، ولما ضعفت القدوة في الدعاة والداعيات صار هذا فتنة للناس، وصار كثير من الناس صالح في نفسه، لكنه ينفر بسبب أنه لا يرى القدوة في الدعاة والداعيات.
قال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:120]، يعني إماماً يُقتدى
وقال تعالى(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)[الأنبياء:73]،  يعني يُقتدى بهم.
لا يمكن الإنسان أن يكون داعية، وهو ليس قدوة في نفسه، الناس يريدون أفعالً؛ ملّ الناس الكلام والقول، لكنهم يريدون قدوات يتأثرون بها.
يكفي أن نكون قدوات، أحياناً القدوة أبلغ من الكلام والحديث، ولهذا قال الله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
القاعدة الرابعة :
من القواعد المهمة: الترفع عن الخلافات. الداعية تكون في مجتمع دعوي، ومن  المعلوم أنه لا يوجد مجتمع إلا ويوجد فيه نوع من المنغصات والمكدرات أو  المناكفة و المنافسة. فهذا أمر طبعي.
لهذا الداعية الحقيقية لا تلتفت إلى الخلافات ؛ لأنها مشغولة بهدفها وهو الدعوة إلى الله -عز وجل-. بعض المشاريع أو المؤسسات الدعوية تكون مشحونة بالخلافات، وهذا جو غير صحي، ويدل على أنه هناك خلل، إما في النيات والمقاصد، وإما في فهم الدعوة أصلاً. يعني الذين يجتمعون لأجل الدعوة ثم يحصل بينهم نوع من التدابر أو التقاطع إما أن تكون النيات مدخولة وغير سليمة ، وإما أنهم لم يفهموا الدعوة أصلاً. لهذا الداعية تترفع عن الخلافات وتتجاوز وتتناسى كل من يسيء إليها.
القاعدة الخامسة :
من القواعد المهمة : أن الدعوة تحتاج إلى طول نفس، وهذا موجود في دعوات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام .
ضجّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وملُّوا وسأموا من تسلط الكفار عليهم، حتى جاءوا وقالوا: «ألا تدعو الله لنا؟» مع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام صبَّرهم، وواساهم ودعاهم إلى الصبر واليقين بوعد الله -عز وجل-.
ولهذا فمهما عظم الشر وقوي الفساد واستطال أهله فإن هذا لا يُضعف الداعية ولا يصيبه اليأس والقنوط ولا ينقطع عن دعوته .
القاعدة السادسة :
من القواعد المهمة: أن الدعوة هي استمالة القلوب. ولا يمكن أن يستجيب قلب شُرخ أو انكسر من أحد؛ لهذا نحرص على أن نُحسن إلى الناس، حتى وإن بدا منهم نوع من الجهل أو السفه، نُحسن إليهم ونصبر معهم ونتحملهم حتى نستميل قلوبهم.
ضاق علينا الوقت، وقرب الأذان، فأنا اعتذر منكم، ولعلي إن شاء الله ما ذكرته فيه الخير والبركة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
Print Friendly, PDF & Email

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى