متى يرتاح المؤمن؟
متى يرتاح المؤمن؟
10/2/1442هـ
واجه الله عباده في آيات كثيرة في القرآن بحقيقة الدنيا ليزهدوا فيها ويقبلوا على الآخرة .
تارة بضرب الأمثلة البليغة في بيان حقيقتها بسرعة انقضائها ، وتبدل أحوالها، وتقلبها بأهلها.
ففي سورة يونس :” إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.
ليبين القرآن للناس أن الدنيا تزيد وتزهو، وتزين وتَجمُل، لكنها ما تلبث أن تنقص وتخبو، وتسوء وتقبح .
وفي سورة الحديد كان بيان حقيقة الدنيا أقوى وأشد ، فبعد أن ذكر الله استمتاع الإنسان بالدنيا وتكاثره فيها بالمال والولد “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا”.
واجه الإنسان بما ينتهي إليه ذلك في الآخرة بقوله :” وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ”.
ومع هذا البيان الأخّاذ ، والبلاغة التي تأخذ بالألباب إلا أن الإنسان تُعميه الغفلة ، وتطغى عليه الشهوة ، وتُغريه الدنيا ، فتأتي آيات القرآن لتواجهه بأسلوب مباشر لتكشف الغطاء عن حقيقة هذه الحياة :” وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”.
ولا يزال خطاب القرآن قائما مذكرا العباد بحقيقة الدنيا ، في شدتها وتقلبها بأهلها .
قال تعالى :” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ” أي أوجدنا الإنسان في شدة وتعب، وكدر ونصب .
وفي قوله:” فِي كَبَدٍ ” بإفادة “في” للظرفية ، أن الإنسان لا يزال مقيما في الشدة لا يخرج منها إلا بخروجه من الدنيا .
ووكّد سبحانه ذلك بمؤكدات تلفت الأنظار الشاردة ، وتجذب الأبصار التائهة، وتُنبّه العقول الغافلة ، فيقول سبحانه في خطابه للإنسان :”فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19) “.
فوكّد الرب جل جلاله بثلاثة أقسام ، واللام والنون في قوله:” لَتَرْكَبُنَّ” بركوب الشدائد في الدنيا طبقة بعد طبقة .
وفي الآية كانت الأقسام بالمخلوقات : الشفق والليل والقمر ، التي تتغير وتتبدل ، وتقبل وتُدبر ، وتذهب وتجيء ، وتجتمع وتفترق ، وتزيد وتنقص، مع تضمنها لرهبة الليل، ووحشة الظلام ، والفرج بالجديد ، والحزن على الفراق في إشارة إلى حال الدنيا في تغيرها وتبدلها ، وشدتها وتقلبها.
هذه هي الدنيا مجبولة على الكدر والتعب ، والشدة والنصب ، فلا تجد فيها مرتاحا ، فهي إن أضحكت أبكت ، وإن حَلَت أوحلَت ، وإن كسَت أوكَسَت، وإن أينعت نَعَت ، وإن أعطت استردّت ، وإن صفت تكدّرت .
وإذا كان هذا حال الدنيا ، فمتى يرتاح المؤمن إذن؟
قيل : للإمام أحمد متى يرتاح المؤمن؟ قال: إذا وطئت قدمه الجنة .
والرب سبحانه جَبَلَ الدنيا على ذلك حتى يحملَ العباد على التعلق بالآخرة والإقبال عليها ، والتجافي عن الدنيا والزهد فيها .
بل كلما ضاقت الدنيا على الإنسان ، وأحاطت به شدتها ، وعانى آلامها ، ازداد شوقا إلى الجنة ولقاء الله تعالى .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .