الأسباب الدافعة للأذى
الإنسان مدني بطبعه يميل للعيش مع الجماعة يأنس بهم ويتفاعل معهم ويحتاجهم لإقامة مصالحه الدينية والدنيوية .
ومن تأمل مقاصد الشريعة وكلياتها العامة وجدها تشير إلى هذا المعنى .
فالفرائض الأربعة الصلاة والزكاة والصيام والحج مشروعة في الجماعة .
والحقوق العامة كصلة الرحم والإحسان إلى الجار وإفشاء السلام وإطعام الطعام مشروعة لتوثيق الصلة بالجماعة .
وجملة من المحرمات كالغيبة والنميمة والتدابر والتباغض حرمت للمحافظة على أواصر الجماعة.
وما دام المرء مخالطا للناس فلا بد أن يناله الأذى منهم ، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى التلازم بين مخالطة الناس وحصول الأذى منهم بقوله :(الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). أخرجه أبو داود .
وحصول الأذية من الناس مكدر للحياة منغص للعيش مشوش للفكر لذا لا بد للمرء أن يأخذ بالأسباب الدافعة لأذية الناس المخففة من آثارها ، وسأورد لك بعضا من هذه الأسباب :
1-الزم التقوى والصبر :
جمع الله عز وجل بين التقوى والصبر في رد كيد الكائدين في قوله سبحانه :{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران:120].
فمن لزم التقوى بالتزام الطاعة واجتناب المعصية حفظه الله تعالى من أذية الناس . ووجد في طاعة الله وعبادته شغلا له عن الناس وأذاهم ، وفي التقوى تسلية للمؤمن عندما يصيبه الأذى فيُذهب أثر التقوى عن قلب المؤمن ما يجده من الألم والضيق .
وصاحب التقوى يُثبت الله تعالى قلبه ويمنحه الصبر والتجلد فيخف عليه أذى الناس ويهوّن عليه ما يجده ..هذا في الصبر الموهوب .
أما الصبر المكتسب فلا بد للعبد أن يعوّد نفسه على الصبر والتحمل مستعينا في ذلك بالله تعالى بالإكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، والسجود بين يديه في زيادة نوافل الصلاة ، كما أمر الرب في قوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]
وكان صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).أخرجه أبو داود من حديث حذيفة رضي الله عنه .ومعنى حزبه :أي أهمه .
ويكتسب العبد الصبر بمعرفة حقيقة الدنيا وأنها لا تخلوا من كدر وضيق وبلاء ومحنة ، كما قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4] أي : شدة .
وكما قيل :
جُبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار
2-اجتهد في أداء الحقوق والإحسان إلى الناس لوجه الله تعالى :
يؤدي المؤمن ما عليه من الحقوق كالصلة والزيارة ويبذل الإحسان للناس طلبا لوجه تعالى كما يقول المؤمنون :{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9].
وأثنى الله على المتقي فقال : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى }[الليل:20]
والذي يُحسن إلى الناس رغبة في الأجر وطمعا في الثواب ورجاء ما عند الله تعالى ، لا يلتفت إلى إساءة الناس وأذيتهم .
أما من كان يؤدي الحقوق أو يبذل الإحسان على وجه المقابلة والمكافأة فتؤثر فيه أذية الناس ويتألم لذلك غاية التألم ، لأنه فعل الإحسان ينتظر مثله وبذل المعروف ليُردّ له .
3-ازهد فيما عند الناس :
إذا رأيت الناس يتنافسون على منصب أو دنيا فاختر الابتعاد واجنح إلى الانزواء واتركهم ودنياهم، لأن الناس عند المنافسة على الدنيا يقصدونك بالسوء ، فتكون هدفا لسهامهم كيدا ومكرا وأذية وشرا، وقد جاء في الحديث :(ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس).رواه ابن ماجه .
وربما يُقال لك إن هذا ضعف وجبن وخور ، وهذا ليس بصحيح ، فلم أقل لك لا تطلب أسباب النجاح والتفوق ، بل اطلبها واحرص عليها ، ولكني أقول لك إذا رأيت الناس يتنافسون على عَرَض دنيوي فابتعد عنهم ولا تنافسهم ، وما كتبه الله لك سيُساق إليك ، ومنافسة الناس على الدنيا لا تُقرب ما لم يُكتب للعبد .
4-أعرض عن الجاهلين :
أمر الله بالإعراض عن الجاهلين في آيات كثيرة ، فقال في وصف عباده :{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63]
وقال في وصف المؤمنين :{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص:55]
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]
والجاهل في الآيات هو السفيه ومثله الحاقد والحاسد ، وهذا السفيه قد تبتلى به فيكون أخا أو قريبا أو جارا .. فما أحسن أن تعرض عنه وتتجنب إساءته .
وكن في تعاملك مع السفيه كقول القائل :
أو كلما طنّ الذباب طردته إن الذباب إذا عليّ كريم
5-وطّن نفسك على الرضا بالإبتلاء :
المؤمن يُبتلى على قدر دينه ، وإذا أحب الله عبده ابتلاه ، في الحديث :(إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم). أخرجه الترمذي .
وهذا الابتلاء قد يكون في أذية الناس وشرهم ، وأحيانا يكون ملازما للمؤمن لا يستطيع الانفكاك منه ، فيصبر ويتجلد إذا علم أن الله إذا أحب عبده ابتلاه رفعا لدرجاته وتكفيرا لسيئاته .
6-تجنّب فضول المخالطة :
التوسع في مخالطة الناس مظنّة لحصول الأذى ، وقد كان السلف يذمون فضول المخالطة لأنها تُشغل عن الله وطاعته ، ولأن التوسع في المخالطة يوقع العبد في أقوام لا يؤمن شرهم .
وإذا أردت صحبة تأنس بها فأنتقها كما تنتقي أطايب الثمر واحرص على طيّب المعشر سليم القلب كريم النفس وافر المروءة ، فإن وجدتها فالزمها ولا تفرط فيها .
7-عليك بمداراة الناس :
يحتاج المؤمن إلى ملاطفة الناس وملاينتهم ، وهذا من تمام الحكمة والكياسة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت :(استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال بئس أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قال النبي صلى الله عليه وسلم :إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه).أخرجه البخاري ومسلم ، وبوب عليه البخاري : باب المداراة مع الناس. والمداراة هي الملاطفة والملاينة لمن يُخشى شره دفعا له .
8-ارتفع بنفسك عن الخصومات :
إياك أن تظهر العداوة لأحد ، فربما كرهت أحدا من الناس لكن الحكمة ألا تظهر العداوة له حتى لا تستعديه عليك ، وبعض الناس تأتيه أذية الناس من قِبل نفسه ببحثه عن الخصومة واستعدائه للناس. فيعيش في حالة صراع مع هذا وذاك .
وفي رأيي أن من أخذ بهذه الوصايا سينجو بإذن الله من أذية الناس وشرهم ، أو تخف آثارها عليه،،، والله الموفق .